هذا الكتاب:
ليس التمثيل مجرد الوقوف والنطق بكلمات بطرق معينة، والحركة فوق منصة ما، أو أمام عدسات تصوير في ديكور مخصوص، ولا هو مجرد البكاء بأصوات مرتعشة، وتحريك عضلات الوجه بطريقة مؤثرة. لكنه عملية إبداعية متكاملة تعني بإظهار ما يكمن وراء النص الظاهر-المكتوب، وذلك في سياق ممارسة، تكاد تكون علاجية، تهدف إلى تطهير المشاهد من مشاعر معينة. كما يمكن القول إنها ممارسة وجودية (نفسية-اجتماعية) متميزة، تتضمن في جوهرها سلسلة متصلة من التناقضات الظاهرية المعقدة التي تجعل من التمثيل أكثر موضوعات الفن المسرحي صعوبة بالنسبة إلى أي وصف تبسيطي، لا يتجاوز المستوى العام في التجربة الفنية، وأيضا بالنسبة لأي تحليل نظري متعال على ميدان الممارسة العملية، بل حتى بالنسبة للتحليل التخصصي، ضيق الأفق، عندما لا يستطيع تجاوز حدود المصطلح النقدي إلى آفاق العلوم الإنسانية المعنية بالبحث في السلوك الإنساني والنفس الإنسانية، وفي العادات والتقاليد الاجتماعية، والتاريخ الثقافي والفولكلوري للشعوب المختلفة.
على هذا الأساس يتخذ هذا الكتاب لنفسه منطقا تركيبيا يبدأ من نقطة السلب، أي من السؤال عن ماهية الممثل وإنكارها كخطوة أولى على درب تأكيد الخصوصية التي نراها لفنه، في محاولة للوصول إلى أنقى صورة ممكنة لتلك الظاهرة الفنية والاجتماعية الممتدة جذورها إلى أعماق تاريخ الاجتماع البشري، والتي أصبحت تغطي اليوم جزءا أساسيا من حاجة الإنسان المعاصر إلى الشعور بالألفة والمشاركة الوجدانية، وإلى الهروب من ضغوط الحياة الحديثة، التي لم يعد فيها مكان للمشاركة الجماعية بمعناها الإنساني الخالص. فالقضية الأصلية، التي يطرحها المؤلف هنا على بساط البحث، هي الصورة المرآوية، الخيالية، للفن التمثيلي، التي تجد أبسط تجلياتها في القول السائر إن المسرح هو مرآة الواقع، أما بالنسبة للممثل فالقضية هنا هي تلك الازدواجية المركبة، ازدواجية "الأصل - الصورة"، أو "الأنا - الآخر"، التي تستدعي سلسلة متعاقبة من المفارقات التي يثيرها إبداعه لدوره تجسيدا لشخصية ما، على منوال: الممثل - الشخصية، الممثل - المتلقي، الشخصية - المتلقي، النص - العرض، الكلمة - الفعل، النفس - الجسد ... إلخ.