تاريخ الملح في العالم
الإمبراطوريات، المعتقدات، ثورات الشعوب، والاقتصاد العالمي
العدد: 320
ترجمة:
أحمد مغربي
هذا الكتاب:
هل يبدو الملح متوافرا بكثرة، وبأسعار رخيصة؟ يجدر بنا ألا ننخدع بعيشنا الحالي: فمنذ بدء التاريخ البشري، وصولا إلى القرن التاسع عشر، كان الملح هو المادة الأعز، التي بذل الإنسان جهودا مريرة للحصول عليها على مر العصور. ومنذ استقرار الجنس البشري عبر الزراعة وتدجين الحيوانات، برز الملح بوصفه مادة أساسية يحتاج إليها الإنسان والحيوان، ومادة لحفظ الأطعمة وتنكهتها. وقبل ظهور التبريد، شكل التمليح الأسلوب الأساسي لحفظ اللحوم والأسماك والأجبان ومشتقات الحليب، إضافة إلى كونه أساسا في التوابل والأفاويه المختلفة. لم يكن عبثا أن المهاتما غاندي اختار الملح ليكون مدخلا إلى استقلال الهند عن بريطانيا، وقبله قاد جورج واشنطن معركة استقلال أمريكا عن بريطانيا أيضا، التي تضمنت نضالا للحصول على الحق في إنتاج الملح والاتجار به.
ولعل أول استخدام تاريخي لافت، وكثيف في رمزيته، هو استعمال الفراعنة القدماء للملح في التحنيط. والمعلوم أن معتقدات الفراعنة تتركز بقوة على فكرة الخلود، وقد جاء اصطناع المومياءات في إطار اعتقادهم بضرورة حفظ الجسد في انتظار بعثه إلى حياة أخرى. وانطلاقا من هذه المعتقدات، فإن قدرة الملح على حفظ الجسم أعطته هالة أسطورية لا يصعب أبدا فهم أبعادها. وبمعنى ما، نظر الفراعنة إلى الملح باعتباره مساويا للحياة نفسها.
ويميل كثير من شعوب الأرض إلى الاعتقاد أن "الأرواح الشريرة" لا تتحمل الملح الذي يقدر على طردها طردا، ويصعب التفكير في أي مادة أخرى نالت أي نصيب مواز من الأهمية في فكر الإنسان ومعيشته بأكثر مما فعل الملح.
لعل الوجه الأكثر إثارة في الجغرافيا التاريخية للملح، كما يرسمها الكتاب، يتمثل في تعرف الأقوام الأوروبية القديمة على أن بعضا من جبال الألب لم يكن أبيض بفعل الثلج، لكن لأنها جبال من الملح. وقد انتشرت مناجم استخراج المادة البيضاء على أقدام تلك الجبال، وظهرت مدن تحمل اسم الملح مثل "سالزبورغ" النمساوية، و"هالشتات" الألمانية، ويعني الإسمان كلاهما شيئا واحدا هو: "مدينة الملح". وخاضت شعوب أوروبية كثيرة في تجارة هذه المادة، وامتدت طرق تجارتها عبر أوروربا، مرورا بالشرق الأوسط، لتكمل دربها إلى الصين. لقد امتدت طرق الملح عبر العالم لتكون أول طرق لمرور الثروات وتبادلها بين شعوب الأرض.